أزهار الشمس

10/03/2014 21:36
 

" أزهار الشمس" لوحتان توأمان لفان غوغ تلتقيان

 

 

لندن - مودي بيطار

أزهار الشمسنفر بعضهم من شعبيّتها التي أثّرت سلباً في حكمه، وفُتن آخرون بطاقتها الباهرة والأصفر على الأصفر فيها. تبقى «أزهار الشمس» لفنسنت فان غوغ من اللوحات المفضّلة لدى البريطانيين، ويقول مارتن بيلي في كتابه «أزهار الشمس لي» الذي استعار عنوانه من عبارة للفنان، إن الأرض أمامها في «ذا ناشونال غاليري» تتخدّش من أقدام الزائرين أكثر من أي بقعة أخرى في المتحف. تساهم الشهرة بالطبع في إملاء الذوق وقائمة المشاهدات التي نحتاج إلى ملئها خصوصاً حين نزور بلداناً أخرى، لكن اللوحة تستحقّ شهرتها. «ناشونال غاليري» في لندن استعارت توأم اللوحة التي تملكها من متحف فان غوغ في أمستردام لتعرضهما منذ أواخر كانون الثاني (يناير) جنباً إلى جنب للمرّة الأولى منذ خمسة وستّين عاماً، وتثير الاهتمام مجدّداً بالأزهار التي شحذت حيويّة في الفنان المضطرب اعتبرها ضمانة لسلامته العقلية.
رمزت أزهار الشمس إلى الأمل والحياة وحب الله والمسيح، وراج استخدامها بين مهندسي الحركة الجماليّة البريطانيين ومصمّميها. لا شك في أن فنسنت فان غوغ (1853- 1890) رأى الأزهار المحفورة بالحجر والمعدن حين عمل في بريطانيا تاجر فن ومعلّماً للصغار وواعظاً، وفشل في كل ذلك. رسمها للمرّة الأولى في باريس حين اكتشف الانطباعيين، وعاد إليها بعد نحو سنة في آرل، بروفونس، جنوب شرقي فرنسا. أصيب بحمى إبداعية في صيف 1888 كان دافعها ربما الرغبة في إثارة إعجاب بول غوغان الذي دعاه إلى زيارته. عاش على القهوة والكحول، ولئن كانت لوحات حقول القمح رائعة، بقيت أزهار الشمس أجمل ما حقّق في تلك الفترة. رسم أربع لوحات منها في ستّة أيام في آب (أغسطس) أمضى بعضها داخل البيت بسبب الريح الشماليّة العنيفة التي طار معها مسند اللوحة. تُظهر اللوحات تطوّره في الجرأة والثقة بالنفس، إذ بدأ طبيعيّاً تقليدياً نسبيّاً برسم ثلاث أزهار في مزهريّة خضراء أمام خلفيّة زرقاء مخضرّة، وتطوّر إلى استبدالها بدرجات مختلفة من الأصفر. انتهت الأولى في مجموعة خاصّة، ودُمّرت الثانية الأكثر جرأة والتي حوت ستّ أزهار في قصف اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. أزهار اللوحة الثالثة الأربع عشرة ظهرت أمام حائط يتداخل فيه الأزرق والأخضر، وهي موجودة اليوم في ميونيخ. واشترت «ناشونال غاليري» البريطانية النسخة الرابعة البالغة الجرأة بالأصفر الذي ينتشر في الخلفية والمزهرية والأزهار الخمس عشرة.

كان فان غوغ أكثر سعادة باللوحتين الأخيرتين وعلّقهما في الغرفة التي أعدّها لبول غوغان خلال زيارته. عزم على رسم دزينة لوحات من أزهار الشمس يزيّن بها بيته الأصفر في آرل، لكنه فقد اهتمامه بها فجأة كعادته وانتقل إلى موضوع آخر. كان أمل في تأسيس حركة «انطباعيو الجنوب» تضمّه وغوغان وتولوز لوتريك والفنانين الذين يشبهونهم أسلوباً على أن يعيشوا معه في منزله. وصل غوغان في تشرين الأول (أكتوبر) وأَسَرته لوحة أزهار الشمس الرابعة :»هذه هي الزهرة» قال وهو يعني أن فان غوغ التقط جوهر الأزهار و «روحها» وليس زهرة الشمس بعينها. رسمه غوغان وهو يرسم أزهار الشمس، وحين تشاجرا ليلة عيد الميلاد قطع فان غوغ نصف أذنه اليسرى. غادر غوغان وكتب يطالب بلوحة أزهار الشمس الرابعة المعروفة بـ «الأصفر على الأصفر». لم يستطع فان غوغ التخلّي عنها فرسم نسخات منها استقرّت إحداها في متحفه في أمستردام، وهي التي أعيرت لـ «ناشونال غاليري».
مطلع 1890 استشار فنسنت ثيو حول اللوحة التي سيشترك بها في معرض «العشرون» الطليعي في بروكسيل. أجاب: «وضعت إحدى لوحات أزهار الشمس على المدفأة في غرفة الطعام. تبدو مثل قطعة قماش مزخرفة بالساتان والذهب. إنها رائعة». كانت بسيطة، قوية اللون، فرديّة الأسلوب، ومن أكثر الأعمال الفنية ابتكاراً يومها، لكنها صعقت تقليديين كثراً. كان فان غوغ في المصحّ حين هدّد هنري دو غرو بسحب أعماله إذا عُلّقت اللوحة «المضحكة» لفان غوغ «المشعوذ» فتحدّاه تولوز- لوتريك إلى نزال تدخّل الأصدقاء لمنعه. توفّي الفنان في العام نفسه عن سبعة وأربعين عاماً بعد أن باع لوحة واحدة طوال حياته. في 1910 ضمّ معرض «مانيه وما بعد الانطباعيين» في لندن لوحتين من «أزهار الشمس»، وشكّل الامتحان الأول للبريطانيين إزاء الفن الحديث. برهنوا عن ذائقتهم المحافظة بهجوم لا يرحم على الأزهار، وقال ناقد «مورننغ بوست» إن فان غوغ مجنون.
لكن الفنان الهولندي وجد أنصاراً بين المثقفين في العشرينات، ورأت الكاتبة الأميركية كاثرين مانسفيلد أن أزهاره «تطفح بالشمس في وعاء. عاشت معي بعد ذلك وأستطيع أن أشمّها وأنا أكتب». لا رائحة لأزهار الشمس، لكن تجربة الكاتبة المتحمّسة تجاوزت الحواس إلى العقل: «علّمتني شيئاً عن الكتابة (...) نوعاً من الحرية، أو بالأحرى التحرّر». الكاتب الإنكليزي د. ه. لورنس قال في مقاله «الأخلاق والرواية» إن «أزهار الشمس» مثال على كل ما يجب أن يكونه العمل الفني، أي كشف العلاقة بين الإنسان والكون المحيط به في اللحظة المعيوشة. الفنان الإنكليزي ديفيد هوكني الحب للضوء يدين بالكثير لفان غوغ، ورسم أزهار الشمس تحيّة له.

توفّي ثيو فان غوغ بعد أشهر من وفاة شقيقه الفنان. بقي معظم نتاج فنسنت ورسائله في عهدة جو، أرملة ثيو التي رفضت أولاً بيع لوحة أزهار الشمس لبريطانيا مشدّدة على ضرورة بقائها في العائلة. غيّرت رأيها بعد ذلك وقبلت ببيع «الأصفر على الأصفر» الأصلية لا النسخة: «لا لوحة تستطيع تمثيل فنسنت في الغاليري الشهير عندكم أكثر من «أزهار الشمس». هو نفسه، رسّام أزهار الشمس»، كما دعاه غوغان، «كان سيرغب في أن تكون هناك». ألفت الذائقة الشعبية الأزهار بعد ذلك، وعلّقها الطلاب في غرفهم، وفاق بيع بطاقاتها البريدية تلك التي تصوّر أعمال الفنانين الآخرين. لكنها تحوّلت كليشيه أيضاً ولكن من دون أن تفقد معناها ورمزها للعارفين ومتذوّقي الفن.