عن الفوتوغرافيا

11/03/2014 00:52
 

عن الفوتوغرافيا سوزان سونتاج

 

 

تقديم و ترجمة: محمد سمير عبد السلام
(مصر)

سوزان سونتاجأولا : مقدمة الترجمة

أحدث فن الفوتوغرافيا طفرة واضحة في العلاقة المعقدة بين المجازي و الحقيقي. تلك العلاقة التي مرت بأطوار كثيرة منذ تضخم الأثر في النقوش الجدارية، حتى بلاغة اليومي، و الجاهز في فنون ما بعد الحداثة.
و رغم ارتباط الفوتوغرافيا بالنزعة التسجيلية، فإنها تفجر عددا كبيرا من الأسئلة المعرفية، و الوجودية، و تلك الخاصة بتطور الفن، و حركاته الطليعية انطلاقا من الذوبان الكامل للحدود بين الفني، و الحقيقي؛ فقد بدأت الموضوعات التي ترتكز على أحادية الذات المتعالية، أو الحقيقة اليقينية في الأفول منذ انتشار الممارسات الفنية الملتبسة المعاصرة.
و دراسة سوزان سونتاج – التي نقدم جزءا منها بالعربية – هي الأهم في الفكر الغربي المعاصر حول هذا الفن، فضلا عما قدمه جان بودريار من مقالات، و ممارسات في المجال نفسه.
لقد وسعت سوزان سونتاج من دائرة الامتلاك الفني، و الوجودي للعالم عن طريق الكاميرا، و كشفت عن التناقضات الخفية لهذا الفن، و ثرائه بالدلالات.
و قد كان لهذه الدراسة تأثير معروف في الممارسات الفنية المعاصرة، المتجاوزة لما بعد الحداثية، و التي اعتمدت على الغموض الكامن في نقاء الصورة الطبيعي. و كذلك تأثر بها النقاد الجدد المهتمون برصد حركات التطور في الفنون الجميلة.

محمد سمير عبد السلام

عن الفوتوغرافيا

بقلم : سوزان سونتاج

مازال البشر يمكثون – دون تجدد – في كهف أفلاطون، و يجدون متعة في تلك العادة القديمة التي تجرد الصور من الحقيقة، و لكن ما تعلمنا إياه الصور الفوتوغرافية يختلف تماما عما تعلمناه من الصور الفنية الأسبق ؛ و ذلك لوجود الكثير من الصور العظيمة التي تستحق أن ننتبه إليها في كل مكان في العالم.
و قد بدأت الفوتوغرافيا في التراكم منذ عام 1839، و منذ ذلك الوقت صار بإمكان أي شيء أن يتحول إلى صورة فوتوغرافية، هكذا يبدو الأمر ؛ فقد غيرت العين الفوتوغرافية التي لا يمكن أن تشبع، الإمكانيات التعبيرية التي كانت حبيسة في كهف أفلاطون، و كذلك غيرت عالمنا كله ؛ فقد علمتنا رمزا بصريا جديدا، و غيرت تصوراتنا، و وسعتها حول ما هو جدير بالنظر إليه، و كيف نملك حق الملاحظة.

إنها تؤسس لقواعد، و الأكثر أهمية لأخلاقيات الرؤية البصرية، و أخيرا فإن النتيجة العظمى لمشروع التصوير الفوتوغرافي تكمن في أنه يمنحنا إحساسا بأنه من الممكن أن نتصور العالم بأكمله كقطوف تخيلية أدبية.
إن تراكم الصور يعني تراكم العالم، فالأفلام السينمائية، و برامج التليفزيون التي تنير الحوائط، تومض ثم تذهب، و لكن الصور الفوتوغرافية تتمتع بالثبات، و من ثم تظل أخيلتها موضوعا مدركا بالحواس، هذا الموضوع رخيص التكلفة، و يسهل الحصول عليه، و يمكن مراكمته و تخزينه.
في فيلم جودار السينمائي لي كارابينيرز 1963 تم إغراء اثنين من الفلاحين الفقراء ؛ مايكلانجلو و أوليس، بالانضمام لجيش الملك، و نص العهد على أنه بإمكانهما السلب، و النهب، و الاغتصاب، و القتل، و أي شيء آخر يريدونه في العدو، ثم يصبحان من الأثرياء، و لكن حقيبة النصر التي ربحها كل منهما، و قد عادت لزوجاتهما، كانت مليئة بالبطاقات البريدية التي حوت المئات منها صورهما، و كذلك مجموعة من الآثار، و الأنصاب التذكارية، و حكايات الحرب، و الحيوانات، و عجائب الطبيعة، و وسائل النقل، و أعمالا فنية، و بعض كنوز المصنفات المنتخبة من أنحاء الأرض.

إن جودار يحاكي بسخرية السحر الملتبس في الصورة الفوتوغرافية عن طريق الحبكة، و الحيلة الفنية، و ربما تكون الصور الفوتوغرافية هي أكثر الموضوعات غموضا في صناعتها، و تعديلها المركب، و محيطها المتجدد.
إن الصور الفوتوغرافية تأسر التجربة حقا. أما الكاميرا، فهي السلاح النموذجي للوعي حين يعبر عن مزاجه المولع بعملية الاكتساب.
حينما نشرع في عملية التصوير الفوتوغرافي، فإننا نأسر الشيء الذي نقوم بتصويره. يعني هذا أن المرء يضع نفسه في علاقة يقينية مع العالم الذي يبدو شبيها بالمعرفة، و من ثم بالقوة.

لقد تولد الإخفاق المعاصر من العزلة، و الانسلاخ، و ترويض الناس على تجريد العالم في الكلمات المطبوعة، و قد أحدث هذا فائضا من الطاقة الفاوستية، و ضررا نفسيا، و حاجة لبناء مجتمعات حديثة معقدة. و تبدو الطباعة في هذا السياق شكلا أقل خيانة - من جهة تحويل العالم إلى موضوعات عقلية – مما يحدث في الصور الفوتوغرافية ؛ تلك التي تزود الكثير من الراغبين في المعرفة بالنظر إلى الماضي، و فهم الحاضر، و ما إذا كان المكتوب عن الشخص، أو الحدث يمثل تفسيرا حقيقيا، كما يحدث أيضا في البيانات البصرية للوحات و الرسوم. و لكن الصور الفوتوغرافية لا تبدو روايات عن العالم. إنها قطعة منه، فبإمكان أي شخص أن ينتج نسخا كثيرة من الحقيقة، و يقتنيها.
إن الصور الفوتوغرافية التي تعبث بالمقياس العالمي، هي نفسها ينالها التهذيب، و التضخيم، و تصبح ذات قيمة، و تدخل حركة البيع، و الشراء، و يعاد إنتاجها باستمرار، و مثلما تجمع الصور العالم في مجموعات مرتبة، أو صناديق مغلفة، فإنها توضع أيضا في ألبومات، و تلصق على الطاولات، و الحوائط، و تستخدم كشفافيات متحركة. كما تبرزها الصحف، و المجلات، و ترتبها أبجديا، و تعرضها المتاحف، و يضعها الناشرون في مصنفات.
و قد كان الكتاب – لعقود عديدة – هو الوسيلة الأفضل لجمع الصور و تبويبها، في حجم صغير، و بذلك يكون أكثر ضمانا لمدة الحفظ، إن لم تصل إلى درجة الخلود ؛ لأن الصور الفوتوغرافية هشة، و يسهل تمزقها، أو ضياعها، كما أنها أكثر رواجا.
و لكن عندما تحفظ الصورة في الكتاب، تكون صورة عن صورة، أي ذات وضوح أقل، و حينما تمت طباعتها مستقلة في تكوين أملس، استعادت جودتها، التي فقدتها في الكتاب، و التي كانت أسوأ حالا من طباعة اللوحات الزيتية بالطريقة نفسها.
إن متوالية الصور في الكتاب تشاهد من خلال اقتراح تسلسل محدد للصفحات دون مبرر مقبول، أو دليل للوقت الذي تستغرقه كل صورة على حدة.
في فيلمه " لو كان لدي أربعة جمال " 1966 يقترح كريس ماركر عرض الصور من خلال الفيديو، و هي طريقة تسمح بتأليف تأملي متألق لكل أنواع الصور الفوتوغرافية، و موضوعاتها، و هي طريقة أكثر دقة من حيث الحفظ مع الاتساع، و كذلك من حيث الوقت المفترض للعرض، و الوضوح الزائد. و لكن الصور المنسوخة في الفيلم – و كذلك الكتاب - ليست قابلة للتراكم.
إن الصور الفوتوغرافية تزودنا بالدليل الواضح، و قد يشكك البعض في مصداقيتها، و لكن لا ينبغي أن يتأكد الشك إلا عندما نحصل على صورة مقابلة تتطابق معه.
و قد ارتبطت الفائدة الأولى للفوتوغرافيا، باستخدام الكاميرا كأداة لتسجيل الجريمة، و استخدمتها شرطة باريس – في سياق القتل الشامل للكميونة في يونيو 1871، ثم أصبحت ذات فائدة في عمليات المراقبة، و التحكم في المجتمعات الحديثة، و بخاصة مع تزايد السكان.

و من زاوية أخرى تسجل الكاميرا براءة الموجودات، إذ إنها تكشف البرهان الذي لا يقبل الجدل بأن الشيء الذي اكتسبناه قد حدث، حتى لو افترضنا أن الصورة محرفة، فسيظل هناك حدس قوي بأن شيئا ما قد دخل دائرة الوجود، أو اللاوجود.
و مهما تكن عوامل التحريف، أو البراعة الذاتية للمصور، فإن الصورة الفوتوغرافية تمتلك قدرا كبيرا من براءة التسجيل، و الاقتراب من الحقيقة البصرية أكثر من الأعمال التمثيلية، فالصور الاستثنائية التي أنتجها كل الرواد مثل ألفريد ستيجلز، و بول ستاند ظلت محفورة في الذاكرة لعقود طويلة. و كانت عملية ملاحظة الشيء خارج المكان ؛ لأجل من تلتقط له الصورة هي البداية، ثم بدت اللقطات الفوتوغرافية كتذكارات للحياة اليومية كما هو الحال في معارض شاتيرباج.
و بينما يفتقد الرسم التأويل الانتقائي الدقيق، فإن الصورة الفوتوغرافية يمكن التعامل معها بشيء من الدقة. و لكن رغم صدق افتراض الثقة، و المرجعية في الصورة، فإن العمل الذي يقوم به الفوتوغرافيون لا يتسم بالشمولية، باستثناء ذلك الغموض المتبادل المعتاد بين الفن، و الحقيقة، و لو حرصوا على النزعة التسجيلية ؛ فمازالت تحركهم من الداخل دوافع الذوق، و الضمير.

وقد أخذ رواد الفوتوغرافيا في الثلاثينيات – مثل والكر إيفانز، و دوروثيا لانج، و ين شان، و روس لي – مجموعات كبيرة من الصور التي عبرت بدقة عما يرضيهم من الأفكار، مثل دعم التعبير عن الفقر، والنور، و الكرامة، والبنية الجماعية، و الاستغلال، و الهندسة.
دائما ما وجد الانحياز لاتجاه في أعمالهم بالرغم من الإحساس بأن الكاميرا تأسر الحقيقة، و ليست مطالبة بتفسيرها.
إن الصور الفوتوغرافية – مثل الرسم – تقدم تأويلا للعالم، فالصورة حينما تلتقط تتسم بغموض نسبي، و من ثم فهي تحمل بداخلها قدرا من المحو الذاتي، و لا يقلل هذا الأمر من تعليمية المشروع. و لكن سمة المحو هي أيضا كلية الوجود ؛ فالتسجيل الفوتوغرافي هو رسالة الفوتوغرافيا، و كذلك سلوكها العدواني.
إن الصور النموذجية مثل، لقطات الأزياء الشائعة، و الحيوانات ليست أقل عدوانية من الإعمال ذات الانحياز الواضح مثل ؛ لقطات الطبقة الاجتماعية، و الأنماط الانعزالية، و الوجوه ؛ فثمة عدوان ضمني في كل استخدام للكاميرا. و يذكرنا هذا بمجد الفوتوغرافيين في أربعينيات، و خمسينيات القرن التاسع عشر، حينما حققت التكنولوجيا فرصة الانتشار الكبير لهذا العقل الذي يرى العالم كمدونة، أو مجموعة من الصور الحبيسة.
إن الرواد الأوائل الذين استخدموا الكاميرا للحصول على صور فنية مثل ديفيد أوكتافيوس هيل، و جوليا مارجريت كاميرون، تضمنت أعمالهم في البداية الرغبة في أسر الموضوعات الممكنة بدرجة كبيرة.

و لم تكن الصورة الفنية تقع في سياق إمبريالي، و لكن التصنيع قد اتجه نحو دمقرطة كل الخبرات عن طريق تحويلها لصور. و قد انتقلت مرحلة التكلفة العالية التي تستلزم البطء، و الإجهاد، و ارتفاع ثمن الأدوات، و لزوم الرشاقة، و الثراء، إلى شيوع كاميرات الجيب الخفيفة التي تغوي أي شخص بالتقاط الصور.
و قد صنعت الكاميرات الأولى في فرنسا، و انجلترا في الفترة المبكرة من أربعينيات القرن التاسع عشر، و لم يكن هناك فنانون محترفون، و كذلك لم يكن هناك هواة ؛ فقد كان التصوير فعلا مجانيا، مع وجود دافع خفي لكي يصير فنا.
إن صناعة الكاميرا حملت بداخلها الدلالة الفنية، ثم زيادة الاستخدامات الاجتماعية الوظيفية، و قد كان رد الفعل المضاد لهذه الاستخدامات هو تعزيز الوعي الذاتي بالفوتوغرافيا كفن.