صديق الموت القديم : أنسى الحاج

10/03/2014 21:44
 

أنسي الحاج، شيطان مشحون بالاكروباتيك

 

 

(صديق الموت القديم)

أسعد الجبوري

أسعد الجبوري أشد اللغات عظمةً وثراءً في التاريخين القديم أو المعاصر ،هي في أن تكون ذلك المجرى العميق للشعر ولألعاب المخيلة.
فالواقع أو الوقائع بشكل عام ،وما لم يتم استعمالها كصناعات تحويلية، تصدر عنها حركات متزامنة مع اضطرابات الذات وطقوسها العابرة لكل مرآة،سيستمر كواقع جامد أو تحت سيطرة الكوما .ولا ينظر إليها إلا كوقائع مسطحة لا جهد ليبذل على فهمها أو تفسير ما وجدت من أجله.
وعندما ننظر إلى الشعرية كجوهر وجودي مستغرق بالتيه ،وغير موصول بسلك مباشر بالوجدان الإنساني، فذلك لإدراكنا بأن الشعر في أعلى مراتبه ،إنما هو ليس سوى امتناع دائم عن الإمساك به ،إن كان من طرف أو من ياقة. فما من ورقٍ يلتقطُ معنى بعينه،وما من رياح تستكشفُ ما في طبقاته الداخلية من شؤون وكائنات.كل ذلك من أجل أثبات فكرة أن الشاعر أعلى مرتبة من الشيطان، كمكون لأحلام اللغة،وأقل من الدجال وضاعة بتهريب القراء عن كل طرق مستقيمة ،كي لا تؤدي إلى أي كشف ،قد يُعرض الشعر إلى تفسير ضحل،خاصة،وأن التوغل في الباطنية السيكولوجية للشاعر،طالما تتسبب بتشويش يقود إلى الوقوع في فخ الضلالة الفنية .

من أجل ذلك،الشعرُ ليس مَرْكَباً جاهزاً لنقل الحمولات،بقدر ما هو مياه ،طوفانها بالتقسيط.وهذا النوع من الشعر،جزءٌ من خزائن النفس وظلال كتلها الهائمة في الأعماق،حيث المعادن الفوارّة،والمختبرات التي تعمل على تعدين النصوص ،من خلال فحص قابلية كل فلز منها على الاشتعال في دهاليز الداخل أولاً، ومن ثم في أعالي أعمدة الكهرباء .

اشتعال الشعر،أو إنارته التي بدأت على يد عدد من شعراء العربية في خمسينيات القرن الفائت،دفعت بالشاعر اللبناني أنسي الحاج أن يكون شاعر تلك المرحلة المتقدم ،بفعل مراهقته المتطرفة بالحداثة،ولأنه استخدم طرق التهشيم على نطاق واسع،بحيث أفقد أقرانه البوصلة،ليمضي قبلهم كعدّاء بثلاثة سيقان:

1- التجرؤ على السلفية الشعرية وقيم ما قبل الحداثة .
2- التأليف بعد التكسير اللغوي.
3- والمبالغة في عدم ترشيد المراهقة الشعرية،عندما جعل الشعر أشبه بحاضنة لاهوتية،تشتبك مع التصوف ،دون أن تستفيد منه نصوصه لاحقاً.

لذلك فإن عدم توفر إرادة كاملة لتحرير الشعر من الهدوء النسبي- السبات- الذي وضع عقد الخمسينيات تحت انتدابه، لم يستمر طويلاً،بعدما تسلل الخارج الشعري إلى الداخل المحافظ المريض ،تسللاً شبه بسيط في بادئ الأمر،ليعقب ذلك تشكل وتنامي حركات التحديث على يد تلامذة المدارس الفرنسية وخريجي جامعاتها ،ممن تعرفوا على قوى الخيال الشعرية ورموزه عند رواد حركة الشعر الفرنسي الحديث.
هذا لا يعني أن الشعر في الفترات التي سبقت التحديث، كان خالياً من القوة والخيال ،بقدر ما كان الخيال مدثراً بثقل الغبار ومحاطاً بأسوار التراث المانع لأية ثورة أو تمدد،يحاول السيطرة على الشعر خارج سياقه الكلاسيكي،لئلا يقع عمود الشعر أرضاً،ثم تتكسرُ قوافيه ،فلا يكون من توابع الطقوس الماضوية مبنى ومعنى وخلاصة لغوية محافظة تستند إلى أطنان من كتب التراث الشعري!
منذ منتصف الخمسينيات ،كان أنسي الحاج منهكاً بالفوران الشعري.فقد تشرب قبل غيره ،وبنسبة أكبر من أشعة الحداثة،ليرتفع مغموراً بالنور الملوّن هذه المرة،ومكرساً نفسه في هوية شديدة الحساسية،وكثيرة التعقيد ،وثقيلة التهم.
فالحداثة كما ظهرت في أواسط القرن المنصرم،كانت أشبه بالجناية التي تحول دون استقلالية الشاعر ،لأنها تضربُ أو تطوق تحركه نحو كل أي نوع من الحريات الصاعدة ،كما تعرضه لاضطهاد سياسي وثقافي وأيديولوجي ومتنوع آخر .
تلك العوائق والمرارات والموانع،لم تضع السلاسل الحديدية في قدمي الشاعر أنسي،بعدما وجد في الحرية البروتين الأعظم الذي يناسب نصه الشعري،وإن بتشكيلات لغوية محمولة على قدر ضئيل من الإشراق في صياغة الجملة الشعرية وبناء معانيها بلاغة ومجازاً وخيالاً :

((أخاف.
الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظّارتاي. أتبسّم،
أركع، لكنْ مواعيد السرّ تلتقي والخطوات تُشعُّ،
ويدخل معطف! كُلّها في العُنُق. في العُنُق آذان
وسَرِقة.
أبحث عنكِ ، أنتِ أين يا لذّة اللّعنة! نسلُكِ
ساقط، بصماتُكِ حفّارة!
يُسلّمني النوم ليس للنوم حافّة، فأرسمُ على الفراش
طريقة؛ أفتحُ نافذة وأطير، أختبي تحت امرأتي،
أنفعلُ !
وأشتعل!... ))

وفي كل مرة يحاول فيها الشاعر أنسي الهرب من القفص اللغوي الضيق،ليمنح الكلمات فرصة بالتمدد أوسع ،لم يجد فرصة لتحقيق ذلك، فينتقل من الشعري الخالص الخالص إلى النثري الكلامي القصصي،ليحط به المقام في خواتم اللا خواتم.علماً إنه أراد أن يستفيد هذه المرة من آلام الجسد في ترصيع هياكل النصوص ،وذلك بزج النص بآتون الروحانيات،تلك التي عادةً ما توحي في الشعر ،ولكنها تصل في المنثوريات إلى مذاق الربوبية مثلما نجدها في نثره ، تارة سادرة في غيها الهيامي،وتارة نائمة في قيلولة من السراب الذي تتلاعب به الريح بقوى خفية.
وإذا اعتقدنا بأن الدين والجنس توأمان ،سعادتهما موصولة بالقائمقام اللاهوتي.فإننا نجد أنسي الحاج ،وقد ترك كل نص من شعره،يُخفي هوساً ناعماً من ذلك التحالف الجنسي الديني ،ولو بشكل من الأشكال.جنسٌ لا يكون ظاهراً لديه إلا بشكل ظلال،ولا نقدر على الإمساك به ،إلا حينما نكون على حافة المرأة ،حيث هاوية ما بعد الفستان المختبئة في لاوعي الشاعر.
وعندما نظن بأن الجنس مجرى كل ديانة، سرعان ما نجد قدرة أنسي مكرسة ،كأن يكون لاعباً ممتازاً في خضم ذلك السيرك اللاهوتي داخل النص.فتارة نراهُ يترهبن ،فيتنازل للدين عن الجنس الشعري ، وتارة نمسكه ذاهباً مع الجنس إلى النص متديناً ،مثل شيطان مشحون بالاكروباتيك .

((قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت.
سوف يكون للجميع وقت، فأصبروا.
إصبروا عليَّ لأجمعِ نثري.
زيارتُكم عاجلة وسَفَري طويل
نظرُكم خاطف وورقي مُبعْثَر
محبّتُكم صيف وحُبّيَ الأرض.
مَن أُخبر فيلدني ناسياً
إلى مَن أصرخ فيُعطيني المُحيط؟
صــار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صـارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي،
وكنتُ بالحبّ.
لامرأةٍ أنهَضتُ الأسوار فيخلو طريقي إليها.
جميلةٌ كمعصيةٍ وجميلةٌ
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرةٍ شاردة ومُخمَّرة في الكرْم
ومَن بسببها أُجليتُ وانتظرتُها على وجوه المياه ))

متابعة الشاعر أنسي الحاج في تجاربه الشعرية المختلفة،يمسكنا الخوف من سيطرة هذا الحطام اللغوي
دون حدود ،خاصة وأنه يحاول بناء جملته على روائح الآلهة التي وكأنها أمسكت بلغته ،دون أن نجد منفذا لخروج النص من بعض المآزق التي تنحسر فيها اللغة تماماً،مما لا تبقى منها غير ما يوهم بمكان صلوات ، يتحول فيها الطقس الشعري من طقس عائم بخلائق الشعوب،إلى طقوس لا نجد فيها سوى فعل الاشتغال بالمجهول وبما وراء الوراء.وهو ما يجعل النص منكمشاً وجليدياً وبلا شعرية إلى حد ما.

((أيُّها الرّبُّ الذي قال لامرأة: يا أمّي
أحفظ حبيبتي
أيُّها الرّبُّ إلهُ جنودِ الأحلام
إحفظْ يا ربُّ حبيبتي
مَهِّدْ أمامها
تَعَهَّدْ أيّامها
مَوِّجْ حقولها بعُشب الخيال
أجعل لها كُلَّ ليلة
ليلةَ عيدِ الغد
أيُّها الرّبُّ إلهُ المُتواعدين على اللّقاء وراء جسر الحُرّاس
أيُّها الرّبُّ إلهُ الخواتم والعُقود والتنهّدات
يلتمسون منكَ طعامهم
وألتمسُ منك لحبيبتي البَرَكة
يلتمسون منكَ لديارهم وما من ديارٍ غير حبيبتي ))

عندما أمشي في حقول أنسي الحاج،أجد نصوصه أجساداً يحتمون به ،خوفاً من أن تتعطل راداراته الموصولة بالغيب. وقد يصح الاعتقاد بأن الشاعر أنسي الحاج ليس لديه ساعة بيولوجية،عنده ساعة القيامة فقط.لذلك نراه على خط بريد الممحاة،تلك الممحاة الوجودية التي كلما فعلت كلما تضاءل حجمها واقتربت من العدم.وشعرية أنسي لها عهد بتلك الجينات اللاهوتية التي تعتبر حجر الزاوية في جسد القصيدة،وربما قبل جسده .ولا أعلم.

((تتجنّب الحبّ حتى لا تصل بَعده إلى البغض.
تتجنّب البغض حتى لا تصل إلى اللامبالاة.
تتجنّب اللامبالاة حتى لا تصل إلى الحبّ.
تتجنّب الحبّ حتى لا تقع وراءه في القَفْر...
أنت كيفما درتَ خرابُ ما قَبْلَه، أو ذكرى نَفْسك.
موجةُ حركةٍ عمياء،
وصدى موجة... ))

في بدايات أنسي كان التدفق الهلامي يحفر في اللغة ،وينتزع ما في بواطنها من أشياء ،من أجل أن يعلقها على حبال الغسيل ،متهكماً وجارحاً وعابثاً ،وكأنه بكائن شعري خرج ذات يوم من قمقم النصوص،ولا يريد العودة إليه حتى لو كان فناء اللغة هو النتيجة.
لا وجود لمفردة تلبس قميص الخيال وإن بنسبة بسيطة. ولا تلمس الجماليات ساخنة عند أنسي الحاج،فهو حاول بناء رؤاه على السطور بجمل عرضية في الغالب العام. ولم يبن جسراً بينه وبين تلك المخيلة الشائكة،بل حاول التمركز بين شقوق الكلمات،دون استخدام واضح لأية بلاغات في المجاز،توقف السرد الذي راح يهيمن على غالبية نصوصه في السنوات الأخيرة، وكأن النص الشعري عنده،بات كلاماً بارداً وأدعية دينية ونجوى لمرأة لم تخرجه حتى من نظام السرد إلى أي سطح من صفيح ساخن أو حارق،يؤكد الاستمرار على ما كتبه مقدمة لمجموعته ((لن)) كنظرية جامعة برائحة فرنسية عن قصيدة النثر والشعر المنثور والنثر الشعري.
لقد أثار كتابا ((لن )) و ((الرأس المقطوع)) في أيامهما صخباً شعرياً حاداً،بمستوى الوعي القديم آنذاك وبقدر حجمه.وكل قراءة جديدة للكتابين ،قد لا تُمكن الناقد من أن يستخرج منها ما يوحي بالربيع المستمر أو بالجحيم الشعري الجميل القائم أو الموصول بالزمن الراهن،أسوة بالشاعر رامبو مثلاً.

((أُكتبْ زيارتك على المواسم. أُكتبْ قُبلتك على
الخبز والخمر. أُكتبْ على المفاجأة.
أُكتبْ.
أُكتبْ شهوتك على، وطَيفك على، وأحلامك على
الغار والنار.
أنت عائد غداً إلى سيّدك.
أإلى فرح سيّدك؟
إلى سيّدك.
أإلى غضب سيّدك؟
إلى سيّدك!
أإلى رحمة سيّدك؟
إلى سيّدك!...
أُكتبْ. ))

الشعر اليوم،هو شعر مختلف .مغاير.لم يؤسس على قاعدة،بعد وجود الموت أو الكآبة في كل القواعد نظرياً ونقدياً وفنياً.بات النص المعاصر –الآن- شديد الفراغ من تراب القدامى.وإذا كانت المسافة أو المساحة في السابق ليست معياراً،فإن الدقائق .الأيام.الأسابيع باتت تفرق الآن عن أيام زمان. ثمة تحولات في اللغة وفي الخيال وفي المجاز وفي الصوت وفي الصورة وفي سرعة الكاميرات الداخلية للنصوص ومدى علاقتها بالبهرجة الظاهرة على سطح كل نص ،بعد كل هذا التحطم الهائل في البنيان العام لخزائن اللغة.

من هنا ..أدرك بأن غياب الشاعر إنسي الحاج عن المكان،كان غياباً قديماً.أنسي تعامل مع الموت تعاملاً متداخلاً:كان الموت صديقاً.مثلما كان أنسي باحثاً في الموت عن كنوز لم يعثر عليها في شيء سواه.كان الاثنان يتعاطفان على بعضهما في علاقة لاهوتية ،للشعر فيها كثافة وأكثر من مفصل