حمدة خميس : بعض اناى وفوضاى

11/03/2014 00:24
 

حمدة خميس: بعض أناي . . بعض فوضاي

 

 

حمدة خميسلا أعرف ولا أظن أن أحداً يعرف كيف يصير الإنسان شاعراً، والقول بالموهبة تحيلنا إلى قوة غامضة تملك في ما تملك الشاعرية وتوزعها كهبات للبعض دون الآخرين . وفي اعتقادي أن الشاعرية مقدرة تنهض بطاقة العقل وتتكرس في شكل من أشكال الفنون التي ابتكرها الإنسان بتعددها الشاسع، ونسميها ميولاً تبرز منذ صبا باكر . ولا بد لهذا البروز من أرضية تقع في اللاوعي الطفولي . . قد تكون جينية أو بيئية . وبالنسبة لي، لا أتذكر تماماً كيف أحببت الشعر دون غيره من أجناس الكتابة . ربما هي القراءة الغزيرة التي استغرقتني منذ صبا باكر جداً . . ربما أنه سحر الكلام حين يكون شعراً وأنا كنت كالمأخوذ في حضرة الشعر . . ربما هو جدي لأمي الذي كان يجلسني في الأماسي وأنا بعد طفلة ويروي لي الحكايات، والشعر . لم يكن راوياً، ولم يكن شاعراً كان صائغاً مبدعاً لأرقى المعادن وأثمنها، كان الذهب طائعاً بين يديه وكنت طائعة، أنصت للحكايا وحين تغمض علي المعاني، يستدرك ويقول: سأحكي لك هذه الحكاية لكن لا عليك من المغنى - ويقصد به الكلام - بل انتبهي للمعنى) ولعله بذلك الترديد قد وضع بذرة الانتباه الأولى في “لا وعي” الطفولة .

ربما كان استجابة للصوصيّتي السرية على الكتاب الذي كنت أخبئه تحت الفراش حتى يغرق البيت في نوم ساذج عميق، لأخرجه من مخبئه السري واقرأ على ضوء فانوس ضئيل حتى صباح يقظة الجميع، لاغتسل وأحمل حقيبة المدرسة التي لم تمس كتبها، وأذهب كتلميذة نشطة إلى المدرسة، تلك السرية جعلت لي مزاجا صامتاً وميلاً للعزلة والاختزال في الحديث . ولأن الشعر اختزال للغة وتكثيف سري للدلالة، بينما أن السرد تكثير للغة وكشف معلن للدلالة، قلت الشعر ولم أقل السرد . لعل هذا الترابط بين السرية والشعر هو ما يحيلنا إلى الشاعرية . . لعل . .!

وإلا فكيف لصَبية أن تستطيع على مقاعد الدرس، تتلقى معرفة اختارها الآخرون ومعرفة محظورة تلص عليها في غفلة العائلة والتقاليد التي تعتبر الكتاب بالنسبة إلى الفتاة خطيئة تقود إلى الخطيئة . . كيف يمكن لهذه الصبية أن تختار والاختيار فعل وعي وحرية؟

لم أحلم أو أتمنى أن أكون شاعرة أو كاتبة أو أي تصنيف يندرج تحت مسمى الادب . فقط كنت مأخوذة ومسحورة بقراءة الكتاب المحظور حتى من قبل المدرسة التي ترى أن انشغال التلميذة بما يسمى “المطالعة الحرة” يشغلها عن حفظ الدروس ويضعف مستواها الدراسي .

ولم يكن لولعي بالقراءة أن ينشأ في أسرة تلفها الأمية، وقيم بليدة متحجررة تحرم على الفتاة حتى حقها في التعليم المدرسي على فقره وسطحيته التي نعرف، بل إن هذه القيم جعلت من القراءة عيباً ووصمة عار تدان به الأسر .

ولم يكن التفكير العقيم حكراً على العائلة، فالمدرسة تمنع أو تقلل من شأن المطالعة الحرة . وربما انها كالأسر تعتبرها عبثاً ومفسدة . . لكنهم ربما كانوا على حق، فقد (أفسدتني!) المطالعة الحرة إلى اليوم، حين نبهتني إلى معنى “المطالعة” بوصفها اطلاع على معرفة لم تسن قوانينها مسبقاً من قبل القائمين على السنن، وانتباه إلى أن “الحرة” تعني الحرية في الخروج على المناهج السائدة والأعراف الساكنة والمفاهيم المستبدة، فمنذ الابتدائية إلى اليوم كانت القراءة هي مربيتي ومرشدتي إلى صراط يأبى أن يستقيم وفق مساطر السلف والجموع .

أما الفضل في شغفي بالقراءة فقد كان يعود إلى ثلاث شخصيات، وإذاعة: أخي إبراهيم، وخالتي فاطمة، ومديرة المدرسة، وإذاعة الشرق الأدنى .

أخي إبراهيم سبقني إلى المدرسة لأنه يكبرني في العمر . وكان حين يعود من المدرسة يعلمني قراءة ما تعلمه في المدرسة وكان يستعير كتباً من مكتبة المدرسة في المنامة فأقرأها أنا . وقد عزز دخولي (المطوع) شأن كل الأطفال في ذلك الزمن إتقاني القراءة حتى إنني ختمت القرآن الكريم في زمن لا يتجاوز الثلاثة أشهر، وأنا أتذكر الآن الطقس الاحتفالي الشعبي للطفل الذي يختم القرآن . . وما زالت ذكرى المطوعة عائشة (رحمها الله) تنبض في ذاكرتي .

وفي المدرسة كان الفضل يعود إلى مديرة المدرسة الآنسة “زينب عيدو” اللبنانية، ولأنها كانت تؤمن بأن المطالعة الحرة تسند التلميذ في دراسته وتدفع به للتفوق، فقد أنشأت مكتبة للمدرسة، وعودتنا أن نجمع في صندوق المكتبة عشر آنات كل يوم خميس، لتشتري الكتب للمكتبة حين عودتها إلى لبنان، وفي تلك الفترة من المرحلة الابتدائية، قرأت أغلب أدب ذلك الزمن الخصب: جبران، والمنفلوطي، وطه حسين ومارون عبود، والسباعي، وتراجم منير البعلبكي، تشارلز ديكنز، فيكتور هيجو، أميلي برونتي، وأغلب كلاسيكيات الأدب الروسي والانجليزي والفرنسي عبر تراجمها إلى العربية .

كانت طريقتي في القراءة تتسم باللصوصية! كنت أخبئ الكتاب عن أعين العائلة تحت الفراش، وإذا رآه أحد أدعي أنه كتاب مدرسي مستغلة أميتهم، وحين يغط الجميع في النوم أختبئ مع الكتاب تحت الغطاء لأقرأ على ضوء فانوس ضعيف حتى الصباح (وقد سببت لي تلك اللصوصية التهاباً حاداً في عيني اقتضى سنوات من العلاج، وما زلت أعاني من حساسية مزمنة في الأجفان بسبب الأدوية)، ثم أغلق الكتاب وأضعه في الحقيقة واغتسل وأذهب إلى المدرسة، وأواصل التلصص في قراءة الكتاب من فتحة الدرج الذي كان كتاب المدرسة مفتوحا فوق سطحه . . وأنا جالسة متكتفة كما كان يفرض على التلاميذ في ذلك الزمن، وكانت سمعتي في المدرسة تتسم بالتأدب والخلق الهادئ والتفوق وعدم المشاكسة والمشاغبة التي تتصف بها أغلب الطالبات، طوال سنوات دراستي من دون أن يعرف أحد السبب الحقيقي . لأن القراءة كانت هي عالمي الحقيقي، المدهش، الرحب، والعميق، ولم أكن أجد متسعاً بسببها للعب والشغب كما كانت الفتيات في عمري .

حين لاحظت المديرة أنني أكثر التلميذات قراءة وإقبالاً على الاستعارة، صارت قبل سفرها تستدعيني لتسألني أي الكتب أريد، وربما وجدت فيّ تحققاً لجزء من حلمها فقد كنت بفضل القراءة المكثفة في كل أنواع الأدب، وليس بفضل الاجتهاد في حفظ الدروس، الأولى والمتفوقة دوماً في كل مراحل الدراسة . . وكنت أعرف أكثر الإصدارات الجديدة من إذاعة الشرق الأدنى التي كنت أنصت إليها كل يوم بعد منتصف الليل حين ينام الجميع . . تلك الإذاعة كانت من روافدي الثقافية المهمة . . كانت برامجها المسائية تتنوع بين الأدب والفن والموسيقا والتراث العربي والعالمي، ومنها تعلمت حب الموسيقا الكلاسيكية، وعرفت بيتهوفن، موزارت، باخ، شوبان، ريمسكي كورسكوف، تشايكوفسكي، بيزيت، فرانز ليست، وآخرين، كما عرفت الكثير من كتب التراث العربي مثل معجم البلدان لياقوت الحموي، والمقريزي، وابن خلدون، وابن رشد والفارابي، وابن سينا، والعقد الفريد لأبن عبدربه، وكان لهذا الكتاب قصة طريفة، فقد كتبت اسمه على قصاصة من الورق وأعطيتها لخالتي لتشتريه لي من المكتبة الوطنية في المنامة حين نزولها السوق، لكنها عادت لتقول لي أن الكتاب موجود لكنه كبير (3 أجزاء) وثمنه 150 روبية، وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت ولم تكن العائلة في وفرة من العيش لغياب الأب العائل الذي هجرنا صغاراً، وتركنا في عهدة نساء لا يتقنّ سوى خياطة البراقع و”التَلي” ولم تستطع شراءه لهذا السبب وظل هذا الكتاب حلماً لم يتحقق حتى ذهابي إلى الجامعة .

كانت خالتي فاطمة رغم أميتها، النصير والمدافع والحامي لحقي في التعليم والقراءة، ولأنها كانت كبرى الأخوات فقد كان الحسم بيدها . . وكانت حين يرتفع صوت جدتي وخالتي الأخرى بالمعارضة لأن التعليم والقراءة (تخرب البنت)، ترد عليهم بهذا القول الذي حفظت معناه جيداً: (دعوتها تخترب . . لكن لا تعيش بقرة!) وكانت تشتري لي وبشكل منتظم كل شهر مجلة “الهلال” والمختار من “ريدرز دايجست” وكل أسبوع مجلة حواء النسائية التي أسهمت في تعلمي الخياطة وإتقانها . اضافة إلى فن التطريز الذي كان مقرراً ضمن المنهج الدراسي في الابتدائية . ثم تعلمت أنواعاً أخرى من الفنون اليدوية حتى أصبحت وإلى اليوم جزءاً من هواياتي المتعددة إلى جانب الزراعة والبناء ونحت الدمى من الفاكهة والخضار، وفن “المكرامية” ولعل هذه الهوايات مجتمعة إلى جانب القراءة أثرت في تجربتي الشعرية، ومنحتني حباً للحياة والفن وفتحت أمامي أفقا أكثر اتساعاً من دفتي الكتاب، اللتين تنحصر حياة أكثر المثقفين العرب بينهما .

المرحلة الثانوية كانت امتداداً للمرحلة الابتدائية وقد قرأت أغلب ما احتوته مكتبتها . ومن طرائف الذكريات في المرحلة الثانوية، أنني كنت ارتدي نظارة شمسية دائماً، بحجة حماية عيني الملتهبة، وكنت أضلل بها المعلمة في الفصل حتى لا تعرف أنني استرق القراءة في كتابي المفتوح داخل الدرج، وبسبب النظارة الشمسية السوداء لقبتني زميلاتي ب “طه حسين” .

لكن متى بدأت كتابة الشعر لا أدري، ربما في حلم النوم وليس في يقظة الحلم، ففي ذات ليلة من تلك المرحلة حلمت بأنني كتبت قصيدة طويلة عمودية وجميلة كما ظننتها في الحلم، وحين استيقظت دونت ما تذكرته منها في دفتري المدرسي ذي الغلاف الأحمر الذي يحمل شعار مكتبة أوال . وقد ضاع في مسار الترحل الطويل . . ولم أدرك حينها أن عقلي قد تنبأ لي بهذا الطريق الصعب والجميل .

مرحلة الجامعة كانت أكثر حسماً لاتجاهي الأكيد نحو الأدب والتجربة الشعرية رغم أنني لا أذكر انني كتبت فيها قصيدة متكاملة، لكنني كنت أخربش ما يشبه الشذرات في دفتر الملاحظات الذي يحتوي على ملخص المحاضرات الغليظة التي لم أحبها قط لجفاف موضوعاتها، ولم اجتهد للتفوق فيها . . كما كان لتلك المرحلة الفضل في خروجي الأبدي ورفضي لكل المفاهيم والتقاليد والأعراف المتيبسة التي تستلب الإنسان، (المرأة والرجل)، وتجعل منهما كائنين خانعين، قانعين وتابعين مستعبدين أبداً .

دراستي الجامعية كانت في بغداد ببعثة عراقية . ومن غريب الأمر أنني درست العلوم السياسية وليس الأدب، ربما بتوجيه من زملائي، والواقع العربي الذي كان زمن نهضة لمواجهة الاستعمار، وقد بدا لي أنني سوف أصبح ممثلة للبحرين في الأمم المتحدة .

كان الشعر يقبع في خزائن الذاكرة والروح، ولم يكن حلماً واضحاً أو طموحاً مدركاً . . إذ كنت في المرحلتين الابتدائية والثانوية أعتقد أنني سأكون مؤلفة مسرحية، فمواضيعي التعبيرية في المرحلتين كانت تتسم بتعدد الأصوات والحوارات، وكانت تلك السمة تنبئ بالاتجاه نحو المسرح، وقد لازمتني هذه الرغبة سنوات طوالاً أسهمت بسببها في إحدى الفرق المسرحية في البحرين ومسرح الشارقة، وقد أخرجت مسرحيتي الشعرية “فوق رصيف الرفض” في كل من بغداد ودمشق، وقدمت مشروع تخرج لرسالة ماجستير لطالب سوري كان يدرس في أوروبا الشرقية .

ثم . . بزغ الشعر محملاً بروح التأمل الفلسفي التي انغرست منذ صبا مبكر من قراءتي لأدب المهجر وعلى الأخص “إيليا أبو ماضي” الذي ترك ضلاله في تجاربي الشعرية الأولى، كما تأثرت بخليل حاوي ومن بعده “بابلو نيرودا”، و”ناظم حكمت” ثم “والت ويتمان” . . ولا أذكر أنني تأثرت بغيرهم ممن قرأت لهم الكثير، أحياناً قليلة أعتقد أنني نجحت في تكوين صوتي الشعري الخاص، وغالباً أعتقد أنني لم أصل بعد، ولعل هذا الشك الملازم لطبعي المتأمل يجعلني في منطقة التجريب دوماً، بحثاً عن حلم جديد في أفق جديد . . وممتد .

كانت أول قصيدة نشرت لي في جريدة الأضواء بعنوان “شظايا” بعد رجوعي من دراستي الجامعية، تحمل ظلالاً من تأثري بإيليا أبو ماضي وخليل حاوي .

فيما بعد كان الترحل وعثرات التجربة الزوجية مصدر خصب وإثراء للتجربة، رغم أني لامحطة استوقفتني ولا مرسى سكنت إليه، حياتي ارتحال دائم حتى لو جلست في غرفة مغلقة، ألقط من الحياة جمالها كما يلقط الطير الثمار في نضوجها . أما هويتي الثقافية فقد صاغتها يداي وكياني وأفكاري وتأملاتي ورحلتي في الوجود وعشقي واجتراحاتي وصراعي الممتد ضد التخلف بكل لغاته وخطابه وموروثاته وسكونه وثقافته، في أي مجتمع كان، وأي مكان وزمان . ذلك أنني أؤمن بأن الإنسان بطبيعته وفطرته، كائن متحرك متغير متجدد دوماً، وأي قيد من أي نوع كان يعيق هذه الفطرة مرفوض قطعاً وأبداً .

في السبعينات بدأت جدية الولوج إلى التجربة الشعرية . كنت فيها مفعمة بأحلام تقدمية عظيمة . وكانت تلك الأحلام تتوسل التجسد عبر رؤى ايدلوجية تقدمية نبيلة وصعبة تتخذ القصيدة منارة ونشيداً، ولم تكن السياسة هماً، كانت بؤرة استنارة اضاءت بصيرتي إلى منعرجات الحرية في تجلياتها الصعبة، وعلمتني صلابة الكفاح في سبيل حرية الإنسان . الحلم بحرية الوطن هو حلم بحرية الإنسان، والانشغال بتجسيد هذا الحلم شعراً كان سعياً إلى تجسيد الحرية في تجليها الخاص والعام .

تلك كانت مرحلة خصبة من عمري الغض منحتني الصلابة ووسعت مداركي وهيأت تجربتي الشعرية لمراحل تطورها أو نضجها الذي لم يكتمل بعد، وقد تجسدت في ديواني الأول “اعتذار للطفولة”، رغم أنه لم يشمل كل قصائد المرحلة الأولى، فقد كان الديوان منتخباً من بين قصائد كثيرة لم تنشر إلى الآن، وقد قيل عن الديوان إنه يتسم بالهم الذاتي ولم يكن وطنياً خالصاً كما اتسمت به قصائد تلك المرحلة من النضال الوطني، ولم أجد في الرأي ما ينتقص من تجربتي المبكرة، بل كنت مغتبطة لقدرة المزاوجة بين اكتشاف الذات وسبر اغوارها التي تفعل انساق الثقافة المتخلفة على طمسها وبين الحلم العام وتوق الحرية للوطن والإنسان، فالذات الخاصة كون صغير يدور في محيط الجمع، وهي ليست ذاتاً منعزلة، مجتثة، بل هي امتداد وتكثيف واختزال لذوات الجموع، وكل ذات هي ابنة بيئتها وأنساقها الثقافية ومجتمعها بكل محمولاته الحضارية السياسية والاجتماعية، ولم أكن أرى أن ما يشغل الذات من قضايا الحياة والوجود لا يشغل الآخرين . وأنا الآن موقنة أن هذا الانشغال المشترك هو الجسر الذي تعبر عليه القصيدة لتصل إلى الآخر، ونحن نعرف أن الصدق في التعبير عن مكنون الذات وتجربتها مع الانتباه أن كل تجربة هي إخصاب للذات هو ما يمنح النص الشعري حميميته وهمسه الخفي وتماسه الرهيف مع أشواق المتلقي .

هكذا تواصلت تجربتي في “الترانيم” ثم في “مسارات” الذي كتبت كل قصائده في دمشق، محطة الكشف والتعب والغبطة أيضاً، رغم أني كنت مثقلة بكل تاريخ النساء ووظيفتهن المؤبدة، مضافاً إليه عبء بيت سياسي، ورجل نذر نفسه للتحرر الوطني أكثر من أي شيء آخر، كنت في تلك المرحلة شبه منقطعة عن القراءة وعن التواصل المكثف مع المناخ الثقافي العام، ولضيق الوقت والتركيز على تطوير التجربة الشعرية اتخذت قصائدي رداءها المختزل في شكل نص قصير يومض ولا يسرد .

ولهذا الديوان قصة أكثر من جميلة يلزمني الوفاء ذكرها، فقد تعرفت إلى صديقة فلسطينية تسكن في مخيم اليرموك في دمشق، وكانت تتردد عليّ بين وقت وآخر وتسألني عن القصائد التي كتبتها في ذلك الوقت، فكنت اقول لها إنني لم أعد اكتب الشعر، وأظن أنني لم أعد شاعرة كما تعتقدين، لكنها لم تصدقني، جاءتني يوماً وأصرت على البحث عن قصائدي في غرفة المكتبة ووجدت نصوصاً متناثرة بعضها على ورق الكلينكس وقصاصت من الجرائد وحتى فواتير المطاعم التي كنا نصطحب الأولاد إليها، فقد كنت اكتب نصوصاً متفرقة أينما كنت، في المطبخ أو جلسة عامة أو في متنزه أو بين النوم واليقظة، وبين انشغالي بالأطفال ومناقشاتي في السياسة، وحتى في الحمام المكان الأثير لدي لما يحققه لي من عزلة وتوحد بالذات، جمعت صديقتي كل هذه القصاصات واستأذنتي في طباعتها على الآلة الكاتبة التي كانت تجيد الطباعة عليها، ورغم أني شكرتها بابتسامة، تشي بعدم أهمية الأمر، لكنها فاجأتني بعد أيام بورق منسق وطباعة رائعة لقصائد أوشكت أن أشك في أنني كتبتها، لأنني كنت أنسى دوماً وليس من طبعي الفوضوي تدوين التاريخ والمناسبة التي كتبت فيها، لكني اليوم وحين اعاود قراءة الديوان تستدعي ذاكرتي المشهد والمكان والمناسبة، تماماً كما تستدعي الصورة الفوتوغرافية لحظة التقاطها . إن عظمة الشعر تكمن في أنه تأريخ لتاريخ منسي، لكن الأشد جمالاً من طباعتها القصائد على ورق الفولسكوب، حدث اعتبره إلى الآن تقديراً تلقيته هبة ثمينة من امرأة أمية، فقد قالت صديقتي إنها بينما كانت تطبع القصائد على آلتها سألتها والدتها عما هي منشغلة به، فأخبرتها وقرأت لها بعض النصوص، ولأن أميتها لم تسمح لها بفهم اللغة الفصحى طلبت من ابنتها أن تأخذها إلى مدرسة محو الأمية كي تستطيع قراءة القصائد وفهم معانيها، حين ذاك لمست جمرة الشعر وهي تتقد في عمق روحي . وحين ذاك أيضاً أدركت سحر ذلك الجسر الذي يمتد بين ذات الشاعر وذوات الآخرين .