ديوان الشاعر مهدى النفرى

10/03/2014 21:16
 

لا تأمن الدَّهْشَة وأنت ضَرير

 

 

مهدي النفري
2011

-1-
 لا تأمن الدَّهْشَة وأنت ضَريرالمعنى حين يهدمه اللامعنى
حسنا،
أنت شخص مثلي تتحدث بلغتي. لكني أقولها لك وللأسف أنني لا أفهم مما تقول شيئا.
كنت وحيدا أمارس الطيران وراء روحي . مرات عديدة كدت أقع فريسة للصيادين لكني في كل مرة ألوذ بالفرار في اللحظة الأخيرة. كيف يحدث هذا وأنا الطائر الذي تقطعت به الأوصال حتى باع جناحيه يوما لقاتله، أقول لقاتله هل يعي أحدكم كم قاسية تلك الكلمة ؟ بالتأكيد لا.
المشكلة أنني مازلت حتى هذه اللحظة احن إلى إعادة تلك التجربة كل مرة كأنها درب سعادتي .
في المرة الأخيرة وأنا أهم بالطيران صوب قاتلي وجدت نفسي تصرخ بي:
لا، إنها ليست نفسي. إنها الرصاصة التي تخطيء دائما طريقها إلى قلبي. يا ترى هل كانت أرحم بي مني ؟ أعرف انه أمر محزن ، بل مؤلم أن ترى جناحيك يقودانك إلى التهلكة ، بينما تحاول رصاصة الرحمة بكل ما تستطيع أن تحميك من جدران الغفلة ورياح المعنى قبل أن يهدمه اللامعنى.

-2-
باب من لا باب لظله.

قلت للأعمى :
أما شاخ وجه ظلك.
قال:
كأنني انتشي ثمر العتمة وأنا ألوح ُ لدروب لا تسلكها الأمكنة.
اقتربت من قلبي حتى سمعت شخير الذئب فيه ،فقلت: :هل يعوي الذئب أم يشخر !!!!
لكن الوعي ورائي كان يدرك أن التراب هو نبع الحقيقة التي تُحرك الضوء صوب الحكمة.
هل كنت أمينا وأنا أتسول الخيال كي يمتدح ليالي الانتظار الطويلة ؟
يا بني
لست بخلاق للتكرار ولكني أقفز كطير بلا جناحين قتله خطأ الجواب.

-3-
ابسط يدك.
قلت للأعمى:

ابسط يدك لي.
قال:
هل من وجه للشمس في منتصف الليل؟
قلت:
ولم القمر.
قال:
يا بنيّ
ما من مكان تمسح دمعته غيمة.
قلت:
وان كان المعنى يهدمه المعنى.

قال:
لا تجتمع السماء في أحضان الإثم ما لم ينم الشيطان في لسان المتكلم.

-4-
أخبرني.

قلت للأعمى:
أخبرني ما المطر؟
قال:
إنسان يتسول السراب.
قلت: ما الغيمة؟
قال:
منفى يتحرك متى وجد روحه خلق له مقعدا.
قلت ما الضوء؟
قال:
ما لا تراه العيون ويراه القلب.
قلت ما الزمن؟
قال:
أثر يحمله الرمل على أكتافه.
قلت ما الموت؟
قال:
إذا فتحت نافذة ووجدت مرآةً تُظلل حلمك.

-5-
عتبة الصباح.
قلت للأعمى:
ما منعك أن تنادي وأنت المنادي؟
قال:
كأني بالأسماء بلا أصحابها ،أناديها فتجيبني الريح .
أُعيد الكرة ، فأرى التراب وحده يترنح في المرايا.
لا الدروب سلكتها الخطوات ولا الوديان بلًلها الانتظار.
قلت له:
ومالي أرى الماء مات ظمآنا ؟
قال:
يا بنيً
أما لو إنني آويت بصرك وبصري والعالم أجمع هل غُفِرت للعتمة خطيئتها ؟
قلت له :
ومالي أرى الظاهر يصاهره الوهم ؟
قال:
اعلم يا بُني ما كل طالب التمس درب مطلبه نال دعواه.
ولا كل أخرس بسط له السمع صمتا فسمعه.
أفمن ركب القرب وألبسه هشاشة المجلس كمن كشفت له عين العين.

-6-
العتمة.
قلت للأعمى :
اسند الليل إلى العتمة تر قلبي
قال
اذهب حيث تاج الضياع يداعب الذرائع.
لا العين أنست وشم هدبها.
و لا القلب صاغ الرحى منتشيا بالجراح.
اعلم يا بُني إن صدفة واحدة في درب اليقين خير من حياة نزعتها مكائد الشك.

-7-
من دروب الأعمى.
قال:
دربي ضيق وقلبي واسع كجمرة الفقد.
كلما دعكت الجمرة لاحت الدهشة في دربي صارخة.
أُف أُف أُف من التأويل .
لا الموت يفُنى ولا الفناء شجرة تعرت من العزلة.

-8-
الشقاء.
قلت للأعمى معاتبا : مالي ارى الشقاء يلبس أرواحنا.
قال:
أرأيت الرمل؟
قلت:
وهل يدرك الحالم هشاشة الطين في أول عشقه.
قال:
يا بُني،
ائت لي بقليل من السراب أكفكف به دموعك.
قلت:
وهل تريد بكلامك هذا أن توقظ الطين ، أم صدفة أجلستها تحصد ثمار الريح؟
قال:
يا بُني،
ما كل مديح نرجس للممدوح.
ولا كل رداء رأف بصاحب جراح.
مهلا مهلا مهلا
لا تُلقِ الوحشة في قلبك وتزعم أنها جنة النسيان.

-9-
هوى نفسك.
قلت للأعمى:
أما وقع من نفسك هوى على ما ليس لك به علم؟
قال:
أما لو إني أخبرتك بقطرات ماء هبطت على قلب حبات قمح في أرض ليس لها برزخ ولا برية فما أنت مجيب؟
قلت:
سأمسك ببريق الماس وأتوسد التأويل
قال:
ويحي منك ومني يا صاحبي.
أعابر أنت فوق ظلال الماء ولا أثر للماء ولك في الدرب.
رويدا رويدا يا صاحبي
ليس كل دليل فضاء لعناق التأويل.
ولا كل همزة مطيتها سفر الأسباب.
وإن لهذيان اليباب شموخ لا تكتبه سرائر الصهيل.

-10-
حديقة الأعمى.
قال:
اضرب بعصاك في دربي يرفرف لك اليقين .
قلت:
وما لأطرافي لا تبتكر إلا الخديعة ؟
قال:
ما كل ما تراه المرايا لباس المطلق.
ابسط يدك في العتمة تُزهر العتمة.
ابسطها في النور تبارك لك أنفاسك وزينة المصابيح.
قلت:
لم تهبُ اليابسة كثيرا من الدمع؟
قال:
ويح لكائن سلك هواجس الريح فلا الريح حملته حيث يشاء ، ولا هواجسه استظلت بظمأ الرجاء.

-11-
السر.
ويح للسر من السر.
أما لدربك أيها العاشق أن تخالجه السكينة.
قلت وأنا أمسك بعكازة الأعمى واصرخ في الخرائط .
قال:
ويح جدران ارتفعت دون انتشاء،
وأسماء دونت دون عذوبة الكلام.
قلت:
ومالي أرى الطين يتهاوى كلما مر عليه نقاء الماء ؟
قال:
ما كنت تحسبه ظلا كان نبعا،
وما كنت تفرُ منه هو البرهان.
ألا أدلك على ما يُعطى دون عطاء ،
وظمآن لا يقترب من العطش أبدا؟
قلت:
أليس للروض نسيم يشمه الأموات ؟
قال:
ها أنت أنت.
لا التراب ساجد للماء
ولا الماء ساجد للتراب
قلت:
ومالي بحجاب لا يدركه ذئب يوسف.
قال:
أن للشوك غرس لا ينحني للقلب الضعيف ،
وأن للنار نور لا يجتذب إليه إلا الفراشات.

-12-
الظل.
كأني بك أيها اليقين محتجبا عن نفسك ، لا درب منك إليك سوى مطية الصبر.
قلت له وأنا احتكم إليه:
هل للأعمى ظلا يبصره ؟
قال:
ويحك،
أي مورد دنوت منه حتى ينطق اللسان بغير محياه.
قلت:
وما يلزم الأيام أن تكون من طرق شتى.
قال:
أما الأثر فهو حجاب لك من ظلك.
فأما أن تُحسن الوقفة مابين السراء والضراء ، أو تلبس ثوب معرفة بلا عمد.

-13-
الرغبة.
قلت للأعمى:
لم علي أن انتظر جدرانا من الرغبة؟
قال:
ويحك ، وهل للذئب جهة أخرى غير يوسف؟
قلت:
ومالي ووجه لا يحيا في الأرض ولا يموت في السماء.
قال:
وهل الشبه في طائر علق في فخ عشقه كمن أدرك مطرا فوجده مأوى للثعابين؟

-14-
حديث عابر.
قلت للأعمى يوما وهو يجلس على نهر جف ماءه :
اخبرني عن صيد لم يقع فريسة لأحد ؟
التفت إلى جهتي حين سمع سؤالي وقال: هل بقي لديك قليلا من الماء ؟
قلت: نعم .وكنت احسب أن الظمأ اعتصره ،فإذا به يسكب الماء في النهر اليابس.
فصرخت ماذا تفعل يا معلمي ونحن في أرض لا قطرة ماء فيها؟
ضحك ، فجعلتني ضحكته أكثر غضبا لأنها جاءت وكأنه لا مبالٍ بما أقول.
قال:
يا بني، هدئ من روعك وابعد ظنون الظن من قلبك، فما أنا من لا يبالي وما أنا من لا يدرك عواقب الأمور.
قلت:
إذن اجبني على سؤالي.
قال:
هل لديك ماء ؟
قلت:
يا ويحي هل جُن صاحبي هذا اليوم.
من أين آت بماء لك وأنت أرقت كل ما نملك من ماء في النهر اليابس؟
قال:
أرأيت لو إن احدنا أورد الأثر فسقاه ، أتراه يثمر ويحي صاحب الأثر؟
قلت:
ومالي أنا ابني بيتا لا نشأة للظل فيه ولا ريح اسند إليها نافذة صمتي.
قال:
أما وإن أخبرتك،
ألشك في الشك يقين،
والعلة في العلة شك.
فلا أنت موجود حتى ثبت العدم ,
ولا الفناء يزول حتى يُثبت الوجود.

-15-
سحابة.
قلت للأعمى:
ما ضرك لو كنت سحابة ؟
قال:
ويح مصير النور حين يلفه القمر.
أما رأيت يا بُني إن زاد اليقين أن ترى اليقين كأنه لم يكن.
قلت له:
إن صادفت الصنعة فوجدت الصانع يستلف صنعته من براءة المفارقة ، فما أنت فاعل ؟
قال:
كأني أرى الماء يحترق بالسراب.
هل رأيت حيث لا أبدية في الأبدية سوى الرغبة بالبرهان في إتيان البرهان.
اعلم يا بُني إن لكل عاشق مبلغ يبلغه.
فإما غلبة تروض الجحيم داخل الروح وإما خيال يطوف بدرب الطوفان.

-16-
العدم.
قال لي الأعمى وهو حزين يكفكف دموعه:
أما رأيت لو أن العدم كان الباب الوحيد للأبدية فما نحن فاعلين ؟
قلت له:
وأي مشيئة أخرى للموت حين يكون الدليل الوحيد على الحياة؟
قال:
أما والذي نفسي بيده لقد رأيت الصورة في طور التكوين حتى انتسب فيها القديم ثوبا ، والجديد روحا ، وسقيت الكلام سقي الأرض العطشى للماء ،وأسندت ركائزها على حبل السمع فقلت، وأنا غير شاهد وشاهد على غيري : لأن توهج النور من عتمة الإنكار سألقي شمس اليقين بجمرة النسيان ، واجمع الوعي حتى يرتد إليَّ طرف العين.

-17-
الحق.
قلت للأعمى :
لم أضعت الحق وأنا الحق
قال:
يا بني،
ثم صمت طويلا،
بعدها قال:
يا بني،
الدرب دربان درب سلكته أنت ولم تسلكه روحك،
ودرب سلكته روحك وكنت تابعا تزرع الأماني وراءها ،لكن حصادك السراب.
اعلم يا بني،
ما من برهان نتبعه إلا دليل على عجزنا منه وإليه,
فلا بصر اتسع حتى يدرك ما وراءه
ولا أعمى أطفأ الليل كي يصل النور.

-18-
أغصان الصباح.
قال:
أرأيت النور والمصباح ؟
هل النور من المصباح أم من البصر؟
قلت:
من الاثنين.
قال:
لا يا بني، ما سلك قلبك الجواب.
قلت: زدني بمعرفتك فانا تلميذ عصاك.
قال:
أرأيت لو ان احدنا حمل أحلامه على ظهره وصاح:
إن قلوبكم بلا نبع فأتوني أوردكم حوض اليقين سالمين فما ترى كان الناس فاعلين ؟
قلت:
سيتبعونه حتما.
قال:
أدرك أدرك أدرك , فما لا تدركه انك لاتُدرِكُ حتى تُدرَك،
وليس للرماد صاحب غير قلب الجمرة ،
أدرك، أدرك، أدرك.
ما من مرئي هو مرئي فكل صورة هي نزف اخر لخفقان قلب الحقيقة
أدرك ، أدرك، أدرك.
أدرك ،أدرك، أدرك ما لا تدركه ،فانك لا تُدرِكُ حتى تُدرَك.

-19-
سرير المرض.
قال لي الأعمى ، وهو يسندني على سرير المرض:
يا بُني,
انك مني خُلقت من شجرة وطينة واحدة اسمها الصبر, فابشر بحجمه واتساع ثوبه.
قلت له:
اذكرني عند المولى,
قال:
أجرعه ماء تتجلى للعطشان خير أم نبع ملؤه اليقين ،أم موقف ندم لا يغرق في بحره سوى السراب ؟

-20-
الوحشة.
قلت للأعمى:
تعال نضع هذه الكراسي في قفص ونترك الطيور تأكل وحشتنا.
قال:
النار لا تأكل الحطب ،إنما يأكل الحطب روحه من الندم.
قلت له:
أيموت الماء حين تُسمم الأسماك؟
قال:
أرأيت
لو أن السهم تخطى القوس فهل لأصابع الرامي من محفل برده ؟

-21-
رؤيا الأعمى.
تلك الحقيقة التي لم يعرفها احد.
اقسم لكم أن الأمر خارج عن إرادتي، ولكن يجب أن أخبركم عنه لأنكم أعدائي الوحيدين في هذا العالم.
كنت صيادا ماهرا , أقول لكم ماهرا , وهذا يعني انه لا صياد غيري على هذه الأرض.
أتردد كثيرا على المرايا في كل مرة اقطف وردة وأعود.
مرة وجدت قلبي يزرع الحيرة في الدروب.
قلت: لأطلق رصاصة الرحمة عليه ، لكن ظلي صرخ بي،
قال: ما الذي تريد أن تفعله؟
لديك رصاصة واحدة وقلب واحد ومرايا لاعدّ لها وأنت الصياد الماهر فاختر ما تشاء عدا قلبك.
لكني كنت مؤمنا بالانتقام ولا أحب الدهشة في دروبي.
أريد فقط أن تنحني لي النجوم والكواكب ، وأن تترك لي من الشهوات والحب ما لذّ وطاب.
لا أجد سببا مقنعا لتشبثي بتلك الطريقة العقيمة من الصيد.
ربما لأني من بلد ضائع ، أو لأني نجمة لم يستدل بها أحد.
لكني سأقول لكم شيئاً واحداً سيجعل دموعكم تنهال على خدودكم.
كانت جارتي من أبشع الخطايا التي ارتكبتها المدينة وتقبلتها كنهر جاف يسقى سرابها , أعني المدينة ، حتى أنني مازلت أتعجب كيف قبل الناس بامرأة دون نهدين!
لا ، وأزيدكم عجبا أنها عاقر, ليس بمعنى إنها لا تلد ولا تحبل . لا،
إنها بلا جسد!!
ماذا؟
حين دخلت باب المدينة الغربي استوطنت قصرا كان إرثا لأحد ملوك
الرومان .وكانت العصافير تكره الاقتراب منه لدرجة أن الناس فكروا بوضع أشجار وأزهار جافة تحيط بالمكان من كل جانب، لكن كل ذلك لم ينفع بشيء. يوماً ما جاء رجلا كهلا يمتطي عكازته، ويقوده طفل ضرير قال: لم أنتم في حيرة من أمركم ؟
هل أدلكم على درب لا تضلون فيه لجلب العصافير وزقزقاتها إلى القصر؟
حينها صمت الجميع ، حتى النهر الذي كان يجري بقوة توقف .
ائتوني بكل أفعى تجدونها في هذه البلاد !!!!!!!!
أليس عجيباً هذا الفعل ؟ نحن نريد العصافير وهو يقترح أن نأتيه بالأفاعي.
لكن الريح التي ألبستنا قبعات ليست لنا وتركتنا عراة نتوسم في الليل مكائده ،وفي النهار مآربه ، أخذتنا إلى ناصية الحيرة.
لست هنا ممن يجدون فأس التأويل بيتا لمظاهر عوراتهم، لكني أكتب لكم عن حقيقة لم يعرفها أحد غيركم.

-22-
سِفر السعادة.
حين سقطت السحابة في عش العصفور انكشفت لأول مرة أسنانه. كان الريش يتطاير وكانت الريح تحاول جمع ظله المتناثر بين عيون أطفاله ،حتى بدأت لحظة التوهج في قلوب الصغار، عندها هدأت الريح وبدأ الحصاد في جمرة الشوق .
لم يكن العصفور غاضبا ولا الريح ، لكن النار التي طافت حولهم كانت تضرب أخماساً بأسداس.
أريد كثيرا من الدم.
أريد أن أرى الفقد هنا والقلوب المهشمة.
عندها استيقظت المرأة التي كانت تمشط ذاكرتها في مرآة اختطفها المطر،
قالت دون أن يسمعها أحد:
إلي إلي إلي يا برهان البراهين،
فما خُلقت ولا خُلق الذي توسد الدهشة.
كان ذلك قد حدث قبل مليون سنة من حادثة سقوط السحابة.
ربما يتساءل سائل ما لذي جاء به الآن ؟
كانت الغابة تتعقب الثعابين ،وكان الظل الوحيد الذي امتطى شكلا قيل أنه ، وبعد تضارب الأقوام على اسمه ، أطلقوا عليه اسم إنسان جزعا ، وللأمانة فان من اختار الاسم هو الأفعى التي تطاردها الغابة الآن .
كان الظل أو لنقل الإنسان ، كما يحلو لهم تسميته ، يرمي الحجر في نبع ماء الغابة الوحيد . وعندما سأله العصفور يوما ما الذي تفعله ؟ إنك تفسد علينا نقاء الماء .
التفت إليه الإنسان وهو يلوح بعصاه بيد ، وبالحجر في اليد الأخرى :
اغرب عني.
أنا الذي يشاء متى يريد.
أنا الخراب الذي لا يشعر بالعار مني.
أنا سِفر السعادة الذي لا قوس فيه و لا قزح.

-23-
صلاة اعتيادية.
قلت للأعمى بعد أن فرغ من الدعاء ( وهي مناجاة يتبعها لا يفهم أحد من الحاضرين لغتها ، ورغم أن الجميع لا يعرف هل هي دعاء أم شيء آخر، إلا أنهم أطلقوا عليها دعاء)
مالي أراك بلا محراب وصلاتك عكس ظلك ؟
قال:
يا بني،
ما من سلطان ملكوته سلطانه ، وما من متبوع أمن أتباعه ، إلا تضعضع مسلكه إلى الارتقاء.
اعلم يا بُني إنه
لا كتمان لمن أدرك ميراث لا يُوّرث ولا لمن قال انه لا مبالي وهو يُطعم قلبه المحبة بالغصب.
يا بُني
إن لآمرنا أمر،
القُرب منه لا تسكنه رغد النوى ، والبعد عنه لا يختلط فيه المعنى.

-24-
عكازة الأعمى.
يقول الأعمى بعد أن ضاقت به عكازته:
أما وإني قد رأيت ما لم تره العيون حتى كنت خيطا أو اقرب منه إلى اليقين ، ولولا الأثر في خطاي لكنت الآن دربا يهدي الناظرين إليه.
قلت له : ومالي أرى ماءك تهالك وبدأت بحيرات نبضك تجف؟
قال:
لما عرفت أنني احمل أشياء ليست لي فوق رأسي أنعى بها الذئاب في وحدتها، أيقظتني الغفوة ، فقلت للدروب : لا صاحب للرصيف غير انتشاء الصمت حيث لا رداء يقي النافذة من الريح ، ولا موج يقتسم مع الغريق اعتذار اليابسة.

-25-
الغراب.
قلت للأعمى:
أرى غرابا يجمع ريشه في قلب اليقين.
قال:
كن منتشيا يا بُني.
أما لو قلت لك : إن السراب دلالة على نبع الماء فما أنت فاعل ؟
قلت:
سأتقلد الفانوس وأجرى في عتمة النهار.
قال:
اعلم يا بُني إن خيط الندى كلام لا يجرحه عواء الذئاب.
وإن الذريعة تنحدر مع الليل كي يشتاق الضوء لدروب العشاق.