هل تعرف المحدث اللغوى العلّامة الأديب الشيخ البشير الأبراهيمى ؟ تعال واستمتع

24/05/2014 18:22

هذا غيض من فيض للإمام العلامـة المحدث اللغوي الأديب الشيخ البشير الإبراهيمي        

 

                                                                

                     

                             

 

                                            سَجـْـــــــعُ الكـُــهَان ِ

 

 

 

هذه فصول، إن لا تكنْ فيها روح الكاهن ففيها من الكاهن سجْعُه، وإن لا يَجُلْ في جوانبها صَدَى الكهانة ففيها من ذلك الصدى رَجْعه؛ فيها الزمزمة المفصحة، والتعمية المبصرة، وفيها التقريع والتبكيت، وفيها السخرية والتنكيت، وفيها الإشارة اللّامحة، وفيها اللفظة الجامحة، وفيها العسل للأبرار، وما أقلَّهم، وفيها اللسع للفجار، وما أكثرهم، فلعلّها تهزُّ من أبناء العروبة جامدًا، أو تؤزّ منهم خامدًا، فنجني شيئًا من ثمرة النية، ونغيِّر أواخر هذه الأسماء المبنيّة.

وفي هذه الفصول من لبوس الألفاظ ما يَعُدُّه المتخلفون من كتّابنا غريبًا، وما غرابته في أذواقهم، إلا كغربة الأعلاق النفيسة في أسواقهم؛ ولو حفِظوه ووَعَوْا معانيه وأقروه في مواضعه من كلامهم، وأحسَنوا إجراءه في ألسنتهم وأقلامهم، لأحيَوْه فحيوا به، ولأصبح مأنوسًا لا غريبًا، وأصبحوا به من لغتهم قريبًا؛ ولكن أعياهم الإحسان، فعفّروا في وجوه الحسان، وعجزوا في جني الثمرة عن الهصر، فرضوا من اللغة بما يباع في "سوق العصر" (1).
منشئ الفصول"نحن الكهّان، أفراس رهان. منّا السابق المصلي، ومنّا الآبق المولّي. كنّا إرهاصًا للنبوّة، ودليلًا للضعف إلى القوة، فلما جاء الحق، وحيص (2) الشق، اندحرنا وانجحرنا،

 فلما عادت الكسرويّة إلى شرائعها، والقيصرّية إلى ذرائعها، آن أن نعود إلى الإنذار، ونصرخ في وجوههم: حذار حذار، إن بطش الله لشديد، وإن الحرير قد يفلّ الحديد".

كاهن قديم

...

 

"الكاهن، لا يُداري ولا يداهن؛ كلامه رمز، ليس فيه لمز. عاذ غيره بالتصريح فعاد بالتجريح، ولاذ هو بالكهانة، فأمِن المهانة. كان ... فكان الزاجر الرادع، للفاجر الخادع، وكان ... فكان نذير السارق والمارق، والخاتل والقاتل، والمحتال والمغتال، والقاذف والحاذف، والمبتهر والمبتئر (3). تجف قلوبهم إذا نوفروا إليه، وتجفّ لهواتهم إذا وقفوا بين يديه، لاستتارهم بالعيب، واستهتارهم بالغيب، فلما جاء "محمد" بالحق فاء الناس إلى ضمائرهم، وحكموا هديَه في سرائرهم، وردُّوا الغيب إلى عالمه فاستراحوا، ولكنهم اليوم عادوا إلى الجاهليَّة، وتقلّبوا في أرحام حنظليّة وأصلاب باهليَّة، فماذا نصنع؟ أنتقدّم منذرين، أم نتأخّر معتذرين؟ بل نُحيي الاسم، ونُميت- كما أمات الإسلام- الرسم".

كاهن عصري

...

 

"كلام الكاهن ليس بالواهي ولا الواهن، كأنما وخزه الماء، أو لمستْه السماء، ففيه من الماء إيراق، وفيه من السماء إشراق. شارف مكامن الغيوب ولَمَّا ... وورد معين العربية فورد جمًّا. عمر صحائف من ديوان العرب، وكان من شعرهم كالكرب من القَرَب (4)، بل كان هو الشعر في أول أدواره، وكان قارعَ باب البيان وفارعَ أسواره ... اصطنع الكهّان السجع ليروقوا السامع ويروعُوه، وليسهل على الناس فيحفظوه وَيعُوه. ولهم في حوْك الكلام مقامات حسان، أخذ منها ابنُ دريد والهمذاني تلك المقامات الحسان. سبقوا في السجع فما سبقتهم إلا الحمائم، وأخذوه طبعًا فما لحقهم فيه صنعًا إلا "بعض ذوي العمائم". وما عدا هذا من الأسجاع، فهي غُصص تتبَعُها أوجاع".

كاهن أديب

...

 

 لا أقسم بذات الحفيف، والجناح الخفيف، المشارفة في جوّها للكفيف (5) وبالسر المودع في التجاويف والتلافيف، وبالمغيرات صبحًا عليها التجافيف، والمغيرين على الحق كالعاهر ابن العفيف (6). وبالسابغات والسوابغ من الدروع والجلابيب، وبالآخذين أمس من تلّ أبيب بالتلابيب، وبالبحر والسفينة، والحبر و"الدفينة" (7)، إن أبا الطيب المتنبي لمن موالينا، وممن تلقَّى الكهانة عن أوالينا، وإنه ما دُعي بالمتنبي (8) إلا لأنه كان شاعرًا كاهنًا، ليناقض النبي الذي لم يكن كاهنًا ولا شاعرًا، وقد نُفِيا عن النبي مجتمعين، فثبتا في المتنبي مجتمعين، وإن كثيرًا من شعره كهانةٌ ملتفِّعة بالشعر، يُوطّيها في جُمل، ويغطِّيها بممدوح أو جمل؛ وستظهر أخباؤها، وتُعلم أنباؤها ... وإن قوله: وقعت على الأردن منه بليّة، هو من الكهانة الكاهنة (بالحالة الراهنة). قالوا أراد أسدًا قانصًا، وقلنا أراد رجلًا ناقصًا. قالوا: أراد كلبًا، روع قلبًا، ومزّق خلبًا، وأوسع المهج سلبًا، وقدم ضراغمة غُلبًا، أوطنها غابات غلبًا وذاد عنها أشاوس غلبا، قلنا: إنما أراد رجلًا ركب صعبًا، وباع شعبًا، وعقَّ لؤيًّا وكعبًا، وسلك بنو أبيه شِعبًا، وسلك وحده شعبًا، وخذلهم في الجلى فملأ القلوب رعبًا، واشتفّ صُبابة المال، فلم يدَعْ لبائس حلسًا ولا لبائسة قَعْبًا ... لم يُرد أسدًا خادرًا، وإنما أراد رجلًا سادرًا، يظهر في زمن نحس، ويبيع ضفَّتي الأردن بثمن بخس، وأيْن ليث عفَّره بدر بسوط، من شخص كفَّره صدْرٌ بنوط.

أيّتها البُحيرة (9)، مالك في حيرة؟ لقد شهدت لبدر بن عمّار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوّة؟ ... وحدّثي الولي يا (ولية)، أيّهما كان عليك بلية؛ ذاك الذي وردك زائرًا، أم هذا الذي وردك خائرًا؟ إنهما لا يستويان؛ ذاك أسد غاب، رزقه في الناب، وهذا حلف وِجار، رزقه على الجار؛ ذاك يعيش على فرائسه، وهذا يعيش على فضلات سائسه، ذاك رمزُ إقدام، وهذا موطئ أقدام؛ ذاك ورد الفرات زئيرُه، وهذا جاوز الفرات تزويره؛ ذاك مشغول البال بتربية الأشبال، وهذا مشغول ... بعُرْس الغول.

أيها الصاعد في العقبة، المجاحش عن خيط الرقبة، البائع لجار السوء صقبه، لا يكن صوتُك الصيت، ولوأحييت المجر الميت.

 

 أيها الخاذل للغزَّى (10)، ما أنت لهاشم ... إنما أنت لعبد العزَّى، أغضبت سراة الحيّ، وأزعجت الميت منهم والحيّ، من لؤيّ إلى أبي نُمَيّ. فويحك، أما تخاف أن تهلك، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك.

 

 

 

 __________

* نشرت في العدد 69 من جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949.
1) سوق العصر عند العامة هو السوق الذي تُباع فيه الأشياء القديمة المستعملة (الخردة والأسقاط).
2) حيص: خيط، ومنه المثل: أن دواء الشق أن يحاص.

3) الابتهار ادّعاء الفاجر الفجور كاذبًا، والابتئار ادعاؤه صادقًا.

4) حبل يشد في عراقي القربة.5) السماء لأنها مكفوفة.

6) ابن العفيف التلمساني، له نزعات شاذة في الاعتقاد.

7) طعام معروف عند اليهود.

8) بدر بن عمار الذي قتل الأسد.

10) جمع غاز.كت